الثلاثاء، 17 يناير 2012

شيءٌ من آهات شط العرب


لم يكن "سلطان " ابن الثلاثين عاماً يعرف شيئا في حياته أكثر من جرفي شط العرب , ذلك النهر الذي يحكي بصوت تلاطم أمواجه قصة بلد عمره آلاف الاعوام ومرت بين جرفيه آلاف السفن فغازلت دفات المراكب سيله العارم  واستنشقت عبق طينه الزكي فانتشت وراحت تغمض جفونها مستغرقة مبتسمة تشق الموج بلطف وود وكأنها ام تلاعب طفلها بين يديها .

 
لم يعرف ثغر " سلطان " الابتسامة ولا شقت غبار صمته كلمة لطالما يتصفح مياه شط العرب الغزيرة بغزارة جرح العراق النازف , فأثار صمته المطبق فضولي فتطفلت عليه بسؤال عن سر هذه الوديان التي تركت اثر في جبينه .
فقال لي مستفهما بصيغة تعجبية محرجة لي للوهلة الاولى : ولما ابتسم ؟! ثم رد التحية بأحسن منها فسألني سؤال ذو شعب متعددة : أيعجبك حال هذه الجنة الأرضية التي لطالما زهت وتزينت فكانت عروس العراقين  عبر العصور ؟! ثم راح يردف السؤال باخر وكأني فتحت قفل فمه المملوء بالكلام واطلق سيل الاستفهامات فكان اخرها قوله : أيعجبك ما ترى من ركام وأنقاض حروب وضعت أوزارها فكبلت العراق وأثقلت الكاهل فأيتمت ورملت و كان ما كان من بلوى الزمان ؟
فأطرقت حينها برأسي وأغمضت جفني لأرى في عالم الخيال شريط مصور للتاريخ وافقت من غيبوبتي التي دامت للحظات على نبرة صوته الحزين وهو يقول بحسرة أحسست بلهيب زفراته التي كانت تشبه رياح السموم في صيف بصري ملتهب  فقال : انظر الى  هذه سفينة عشقت مياه العراق فقررت لفرط شوقها أن تلتصق بقاع الشط , إلا إنها رغم عشقها فإنها لاشك في رغبتها بان تحمل إلى مكان آخر لكي يستعيد الشط مجده فهي تفهم العشق على انه على طرفي نقيض من الأنانية بل لا يحتوي قاموسه إلا على الإيثار والتضحية فأدار إصبعه الأسمر الأصيل يقلب فيه أطراف الأفق ويشير إلى مجموعة الركام وبقايا سفن علقت برمال قاع النهر فأزعجت موجاته الهادئة واعترضت طريق جريان سيل الحب الهادر .
كان الماء حين يصافح جوانب يخت سلطان الصغير يحكي عشق البصرة الفيحاء وآهات سيابها الواقف على عشار أناته على وطنه ليحاكي فينا نخوة أهل الجنوب , كان إصبع " سلطان " مثل بوصلة الم تشير إلى كل آهات البصرة وآلام الصيادين وعشاق شبكة الصيد التي تهرأت لمفارقتها عشقها الأزلي ورفيق دربها ومصدر عيشها ومن خلقت لأجله وإذا بإصبع " سلطان " يستقر على أعمدة من حديد قاسي فنطقت شفاهه فقصت لنا قصة تلك القضبان العملاقة المنغرسة بكبد الشط الكبير قال : إنها بقايا سفينة غرقت فلم ينتشلها احد ولم يفكر في ذلك احد إلا إنهم فكروا في طريقة قال بأنه لم يجد لها تفسير فعمدوا إلى تلك السفينة ليقطعوا أجزائها الظاهرة فوق الماء وليعلنوا عن بقاء النصف الغارق في القعر إلى الأبد لان من فعل ذلك أحب أن يعطي رسالة مفادها انه لم يفكر يوما في إزالة تلك الغوارق ليتنفس شط العرب الصعداء وحتى يطلق زفراته بكل يسر وراحة .
انتهت بي رحلتي الأولى إلى مدينة السياب عند جرف نهرها الكبير على مشرعة الألم وصوت سلطان الذي لم يكن سلطانا إلا على حزنه المتراكم ومركبه الخشبي الصغير .

نشرت في السماوة العدد 301 وصحف اخرى
علي حسين الجابري

1 التعليقات :

ملكوت يقول...

اعطاكم الله العافيه والتوفيق لانكم تنقلون مشاعر شعب عظيم عانى الكثير وكان سلطانا على حزنه ومأسيه من كاتب اعظم وهو جزء من شعب ناضل الدهر ليتحرر ويلد الاحرار وفقكم الله لكل خير

إرسال تعليق